بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ...
أما بعد ... أيها الإخوة والأخوات ....لقد قص الله علينا في كتابه قصصا للسابقين .. ووصف هذا القصص بأنه الحق ، وأنه أحسن القصص ...
ويجب على الدعاة حين يقصون أي قصة أن يلتزموا المنهج العلمي الذي قرره العلماء وهو:
1-وجوب الرجوع إلى القرآن الكريم أولا إذا كان قد تعرض لها .
2-ثم اتباع ما صح من الحديث النبوي .
3-عدم تجاوز ذلك إلى الأساطير والإسرائيليات والأخبار غير الثابتة .
هذا وقد بين الله جل وعلا الحكمة والهدف من هذا القصص ،
فقال تعالى : {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ
وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (120) سورة هود
وقال أيضا : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111)
سورة يوسف
وقال أيضا : {.... فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف
ومن هنا فإنه يجب أن نقص على هذه الأمة هذا القصص ، وأن نهدف من ورائه استخراج الدروس في الإيمان والدعوة والجهاد والثبات .
أيها الأحباب :إن قصص القرآن كنز لا ينفد ، ومعين لا ينضب ، في دروسه
ودلالاته وعبره ، في الإيمان والعقيدة وفي العمل والدعوة ، وفي الجهاد
والمواجهة ، وفي المنطق والأسلوب ، وفي الصبر والثبات ، وفي الموازين
والحقائق ...
ولا يستفيد من هذا القصص إلا أصحاب العقول الواعية ، والنظرات النافذة ،
والاهتمامات العملية ، والخبرات الدعوية ،كما قال تعالى :{لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ }
وحديثنا أيها الأحبة : عن موسى –عليه السلام – والعبد الصالح ( الخضر- عليه السلام )
في إشراق آيات كريمة من سورة الكهف من الآية60: 82
فهيا بنا نعيش أحداث هذه القصة لأخذ العبر والعظات والدروس .....
أولا : قال الله تعالى { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ..}
يعني اذكر يا محمد إذ قال موسى –عليه السلام- لفتاه وهو
يوشع بن نون ) رضي الله عنه كما جاء في الحديث وسيأتي ذكره فيما بعد.
لفتاه : فقد أضيف الفتى لموسى إشارة لتكريم وتشريف يوشع ، فلا أفضل من أن
يكون فتى وتابعا ومصاحبا لنبي كريم من أولي العزم من الرسل .
ولنا وقفة مع يوشع بن نون وهي : هل هو نبي أم لا؟
والصحيح : أن نتوقف في ذلك لأنه لم يرد ما يثبت أو ينفي ذلك .
وكل ما يمكن أن نقوله عن يوشع بن نون : أنه قد استلم قيادة بني إسرائيل بعد
موسى – عليه السلام- وكان رجلا صالحا مؤمننا تقيا راعى أحكام الله وشريعته
في الجهاد والقتال والدعوة إلى الله ، ولا يلتفت إلى ما ذُكر عنه في أخبار
بني إسرائيل .
ثانيا: ماذا قال موسى لفتاه ؟
قال له : {....لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
يعني لن أتوقف عن السير حتى أصل مجمع البحرين – أي مكان التقائهما
واجتماعهما – وهو المكان الذي أخبر الله موسى – عليه السلام- أنه سيجد
العبد الصالح عنده . أو أمضي في طريقي ولو استمر ت الرحلة سنين طويلة وحقبا
مديدة .
ثالثا :{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } (61) فَلَمَّا جَاوَزَا
قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا
نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي
نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
وفي هاتين الآيتين عدة أمور:
1-ففي الآية(61) نلحظ ما يلي :
أ-نسب القرآن النسيان إليهما معا (نَسِيَا حُوتَهُمَا ) ،مع أن الذي نسي في الحقيقة هو: يوشع بن نون وحده.
ب-عبر عن ذهاب الحوت بقوله : ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ).
فما سر ذلك ؟
والجواب والله أعلم :
1-لقد نسب القرآن النسيان إليهما معا :
لأمرين:
أ-من باب التغليب كما يقال: الأبوان- للأب والأم ، والعمران- لأبي بكر وعمر
، فطالما أنهما رفيقان في السفر فهما مشتركان في الرحلة وما يحدث فيها
ومنه النسيان.
ب-أن عاقبة النسيان ونتيجته واقعة بهما وليس بالفتى وحده حيث نتج عن النسيان للاثنين طول الرحلة و والتعب والجوع .
ب-وعبر في الآية (61)عن الحوت بقوله : ( سربا ) لأن معنى سربا يفيد : أن
الحوت لما سار في البحر منع الله الماء أن يلتئم ويلتقي خلفه ، فكان وراءه
ممرا فارغا من الماء على وجه الماء .
2-وفي الآية(62) نلحظ ما يلي :
أ- نسب – يوشع- النسيان إلى نفسه فقال
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)،ونسب
الإنساء إلى الشيطان فقال: ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ ) ، فهل يوجد تعارض بين النسبتين؟
ب-عبر عن ذهاب الحوت هنا بقوله
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عجبا ) .
فما سر ذلك ؟
والجواب والله أعلم فيما يلي :
أ-لا تعارض بين النسبتين حيث إن يوشع لم يتنصل من النسيان ولم يتبرأ منه بل
اعترف به ونسبه لنفسه فقال : ( إني نسيت الحوت ). وبعد أن اعترف بالنسيان
بيَّن مَن الذي جعله ينسى : إنه الشيطان
فقال : (وما أنسانيه إلا الشيطان) ونلاحظ هنا فعلين :
الأول : [ نـسـي ] الثلاثي وقد نسبه يوشع إلى نفسه.
الثاني: [ أنسى ] الرباعي وقد نسبه إلى الشيطان ، وأنسى يُنسب لمن يجعل غيره يَنسى.
وهذه حقيقة فإن الشيطان هو الذي يوقع الإنسان في النسيان فيجعله ينسى ربه ودينه وواجبه حتى يسهل عليه أن يسيطر ويستحوذ على قلبه .
ب-وعبر هنا عن ذهاب الحوت بقوله
عجبا ) لأن ذلك يفيد أن بعث الحياة في
الحوت وهو مشوي ومملح وخروجه من المكتل وذهابه في البحر وحبس الماء خلفه كل
هذه المعجزات تدعو للعجب والتعجب
وبقي أن نبين الحكمة من اختلاف التعبير في نفس الحادثة فقال مرة سربا ومرة عجبا .
والجواب: في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم – حيث قال
فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا ) .
ففي المرة الأولى كان الحديث عن حركة الحوت في البحر( سربا ) ، وفي المرة
الثانية كان الحديث عن أثر حركة الحوت بهذه الطريق على نفسية وشعور موسى
وفتاه ، ولا شك أنهما سيعجبان من حركة الحوت ولذلك عبر بقوله : ( واتخذ
سبيله في البحر عجبا ) ....
وإلى الحلقة القادمة لاستكمال بقية القصة بمشيئة الله تعالى .